انتهى العدوان العسكري على العراق الشقيق أو أوشك على ذلك، والحصيلة خيبة أمل وحسرة وألم في نفوس شعوب الأمة. هذه الحسرة هي نتاج سوء الفهم الدقيق لحقائق الأمور.
لقد سقط نظام الطالبان من قبل ووقع العدوان بالفعل ولم يتحسر أحد بالقدر الذي نشهده الآن على العراق. لماذا؟
الطالبان في نظر البعض ليسوا سوى زمرة إرهابيين طارئين على ذلك البلد الذي أنهكته الحروب، لا سند شعبي لهم، بل لم يعرف الأفغان في عهدهم سوى الإرهاب والتطرف وإيواء “مرتزقة” من كل حدب وصوب. وهم بعد ذلك أضعف ما يكون عن مواجهة أكبر وأعظم قوة في العالم خاصة وهي في أوج هيجانها.
لكن العراق كان إلى أمد قريب رمز القوة العسكرية العربية حتى إن البعض صنفه في المراتب الأولى عالميا، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء التفكير فيما خلفه العدوان السابق إبان حرب الخليج الثانية على هذا البلد، ولا حتى سنوات الحصار الطوال، من ضعف القوة العسكرية واستنزاف قدراته المادية والبشرية والنفسية.
ولعل ما أسهم في ذلك هو سوء تقديرهم لحقيقة الواقع، زاد في الطين بلة دعاية أمريكا وحلفائها وإصرارها على امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، لقصد جلي لم يعد يخفى على أحد، خاصة بعد دخولهم أرض العراق واستيلائهم على خيراته. فظنوا أن هذا البلد لا زال يملك تلك القوة التي كان هؤلاء المعتدون ممن أسهم في إنمائها. دون أن ننسى تلك النخوة العربية التي عزف على وترها نظام صدام وما هيجته من مشاعر التضامن والفخر بأول بلد عربي يواجه قوة أمريكا وجبروتها.
ولم تزل الأمة طيلة أسابيع ذلك العدوان تأمل في تلك المقاومة الشرسة لأولئك الصناديد البعثيين وتكذب يوما بعد يوم كل ما تسمعه وتراه من اجتياح وغزو وعدوان على أراضي العراق، وتصدق مزاعم قادة البعث وتفنيدهم تلك الحقائق التي نقلتها قنوات الإعلام. لكن سقط القناع واندحرت المقاومة الباسلة وعمت خيبة الأمل أرجاء القلوب والأقطار. كان سرابا تسعى الأمة وراءه دون جدوى، سببه سوء تقدير الأمور والحقائق وانسيابها وراء عاطفة جانحة.
والأمة الآن بعد خيبة الأمل هاته مطالبة باستخلاص الدروس والعبر.
1- الدرس الأول يخص الحكام والأنظمة:
صرح وزير خارجية أمريكا في نشوة الفرحة بالانتصار على إثر سقوط صنم صدام، رمز نظام دام عقودا، بأن ما وقع في العراق درس لدول أخرى ينبغي أن تستفيد منه.
هو درس على الأنظمة القائمة الآن أن تستخلصه. والدرس درسان: درس على الطريقة الأمريكية، وآخر على وفق ما تحتاجه الأمة من مصالحة مع الذات.
فأما الطريقة الأمريكية فتقتضي من حكامنا الاعتبار بما وقع في العراق وغير العراق، وأن لا يجرؤوا على مخالفتها أو معارضة مصالحها أو مجرد محاولة الحفاظ على كرامتهم، إن بقي لهم شيء اسمه كرامة.
هذه الطريقة تقتضي من حكامنا مزيدا من الخنوع والاستسلام، وتقديم رقاب الأمة للذئاب الأمريكية تسفك دماءها وتنهب خيراتها وتمعن إمعانا في إذلالها واستصغارها.
أما السبيل الثاني، وهو سبيل المصالحة مع الذات والاستناد إلى الأمة واستمداد شرعيتهم منها. فهو السبيل القويم الذي يرفع الأمة، ومعها حكامها، إلى مصاف الأمم الخالدة.
هذا الدرس نستشفه من خلال تنكب شعب العراق عن الصمود والثبات في مواجهة العدوان، لأنه لم يكن يوما ما يريد هذه الحرب القذرة وذلك العدوان وتلك النخوة العربية الجوفاء وذلك الانتحار الذي اقتيد إليه دون استشارته. شعب عاش تحت قهر الاستبداد البعثي فكان كقطيع غنم يفعل به ولا يفعل. أرغم على خوض حروب مدمرة دون أن يكون له فيها لا ناقة ولا جمل، مع أنه كان دائما وحده من يدفع الثمن. والثمن ليس من جراء تلك الحروب فحسب، بل ومن أسلحة النظام نفسه، كما حدث مع الأكراد وما استعمل ضدهم من أسلحة كيماوية، أو ما لاقاه الشيعة في الجنوب من اضطهاد واغتيالات لرموزهم وعلمائهم.
أرغم شعب على الانتحار فكانت النتيجة أن انتفض عند أول فرصة له للانتقام والتعبير عن مكنونات صدره.
حقيقة لقد آلمنا ما رأيناه في شعب العراق من ضعف المقاومة، لكن اللوم ليس عليه بل على من تسبب في ذلك واستخف بهذا الشعب أيما استخفاف.
هذا هو الدرس الذي نريد من حكامنا أن يستوعبوه حتى لا يكونوا محط سخرية العالم عند أول محك يواجهونه. استيعاب الدرس يكمن في مصالحتهم لشعوبهم وعودة الأمور إلى نصابها، وإتاحة ما تستحقه الأمة من حرية، بداية من حرية اختيار حكامها ثم حرية تقرير مصيرها واستشارتها في اتخاذ قرارات هي أول من يتحمل تبعاتها.
إنها مسألة حياة أو موت بالنسبة لهؤلاء الحكام، ولهذه الأنظمة القائمة الآن. حياة لهم إن هم ساروا في ركب الأمة وأعادوا لها حقوقها المغتصبة منذ أمد بعيد، أو موت إن هم نكصوا واتبعوا إغراءات أمريكا وإكراهاتها. هو موت وحكم بالإعدام على أنفسهم لأنهم حينما يختاروا غير سند الأمة ويفضلوا عليه ذلك السند الزائف الزائل الآتي من أمريكا فإن هذه الأخيرة لن ترضى بأقل من الخنوع التام والاستسلام المطلق. هنا المقتل! لأن هذه الأمة لن تبقى خانعة إلى ما لا نهاية. وقوة الضغط تولد الانفجار، وسيأتي على الضحية يوم تقول فيه لا وكفى ! وقد عودتنا هذه الأمة أن لا تركن إلى الظلم والقهر أمدا طويلا، وأن لا ترضى بأن تسام سوء العذاب والإهانة جيلا بعد جيل. فلا بد من يوم تنتفض فيه ضد الجور وتعلن نفسها حرة أبية.
2- الدرس الثاني يخص الأمة وقواها الحية:
الفائز الأكبر على المدى المتوسط والبعيد مما وقع في العراق هو هذه الأمة وقواها الحية. فهي إما مستفيدة مما اعتبره حكامها من هذا الدرس فتحظى بمزيد من الحرية والكرامة، أو مستفيدة من مزيد المقاومة والنهوض الناتج عن قوة الضغط.
ثم هي مستفيدة أيضا من الدرس الذي ستعتبر به تلك القوى الحية وفي مقدمتها الحركة الإسلامية. فما هو هذا الدرس؟
إن غياب دور الأمة وقواها الحية في العراق هو الذي حدا بشرذمة من البعثيين أن تستبد بالأمر وتتحكم في مصير الأمة وتلقي بها إلى التهلكة. والمطلب إذن عودة الأمة إلى أداء دورها المنوط بها، وليس ذلك ممكنا إلا إذا قامت حركة جادة وفاعلة تقودها تلك الأمة الخاصة التي انتدبنا إليها الحق سبحانه في قوله: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر متمثلة في كل القوى الحية للأمة والفعاليات الحقيقية، وليس ثمة الآن أفضل من يمثل الأمة من الحركة الإسلامية لارتباطها الوثيق بهموم الأمة وانشغالها اليومي والحقيقي بآلامها وآمالها، دون أن ننكر دور حركات أخرى جادة وفضلاء يتهممون بما آل إليه أمر هذه الأمة.
هذا أوان هذه الأمة الخاصة للقيام بمهمتها التغييرية. إنها على موعد آخر مع التاريخ لا ينبغي هذه المرة أن تتخلف عنه. فالأمة الآن قد عمتها الحسرة وخيبة الأمل في أنظمتها السياسية وحكامها، ولا بد من توجيه هذا الغضب وهذه الحسرة توجيها سليما وحضاريا حتى لا تسقط الأمة في متاهات اليأس المقيت أو العنف المميت.
إن هذه الأمة الخاصة إما أن تكون ملاذا سياسيا وأخلاقيا لهذه الموجة العارمة ولتلك الأجيال المتحسرة أو لا تكون. لا مجال للانتظار والتفرج على الوضع القائم، لأن التاريخ لا يقبل الفراغ، وكلما وجد فراغ فيه إلا وملىء سواء بحق أو بباطل. وهي سنة الله في خلقه والله سبحانه لا يعبث في كونه.
توجيه الأمة بإحياء تلك الشرارة التي كانت ولا تزال متقدة، لكنها في حاجة إلى من يرعاها، والله هو الراعي. إذكاء الغيرة على دين الأمة وكرامتها وتوقانها إلى مجدها وعزتها وريادتها للإنسانية جمعاء بدل أن تبقى في عداد عالم ثالث أو رابع.
إن الأمة الآن تؤدي ثمن سياسات فاشلة وقرارات مصيرية خاطئة، لم يعد مقبولا أن تظل دوما تؤدي ثمن شيء لم تقتنع به ولا شاركت فيه ولا استشيرت فيه. فلا بد إذن من فرض هيبة الأمة وحقها في اتخاذ ما تراه مناسبا لها.
3- الدرس الثالث يخص الأمة أيضا:
ويتعلق بانفراد الحزب الوحيد بالحكم وسيطرته على تدبير الشأن العام واستبداده بالأمر. لقد ظل حزب البعث في العراق طيلة ثلاثة عقود مهيمنا على الحكم مستبدا به ولم يدع أحدا ينافسه في الأمر، واستعمل في ذلك كافة وسائل القهر ضد معارضيه حتى صار شعب العراق مدجنا يرى ما يراه له الحزب ويفكر بتفكير الحزب. ولقد كشفت هذه الأحداث الأخيرة عن ذلك الفراغ الذي أحدثه خراب الحزب واندحاره وأن الأمة لم تجد من يؤطرها ويوجهها فظهرت السيبة وكثر النهب وعمت الفوضى والارتجالية.
إن غياب تعددية سياسية حقيقية تعبر عن اختلاف الآراء والتوجهات واحترامها يضع الأمة في مأزق لا تقدر على الخروج منه عند الشدائد. والتعددية السياسية هي غير التعددية الحزبية. فحتى في غير العراق لا نجد أثرا لتعددية سياسية وإن كنا نرى بعض الدول تعرف تعددية حزبية كما في المغرب. فالتعددية السياسية تعبير عن اختلاف وجهات النظر المذهبية أو السياسية حتى وإن لم يتصرف ذلك في قوالب حزبية بالضرورة. لكن ما نشاهده الآن في أقطار الأمة أحادية سياسية بنسخ حزبية متعددة. فأحزابنا هي نسخ طبق الأصل للنظام القائم بألوان مختلفة.
الجمعة 12 أبريل 2003
محمد اللياوي – سجن القنيطرة